العبروالفوائد من قصص الأنبياء
صفحة 1 من اصل 1
العبروالفوائد من قصص الأنبياء
الفوائد والعبر من قصص الأنبياء
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . ثم أما بعد :
فإن الأنبياء أكمل الناس عقولاً ، وأحسنهم أخلاقاً ، وأشدهم صبراً عند الأبيتلاء ، اختارهم الله ليكونوا سفرائه إلى أقوامهم ، ليبشروهم برحمة الله وفضله إن هم أطاعوه ، وينذرونهم غضب والله ومقته إن هم عصوه وخالفوا أمره .
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز طائفة من الرسل والأنبياء ، وعددهم خمسة وعشرون نبياً ، منهم ثمانية عشر نبياً في أربع آيات متتاليات من سورة الأنعام وهي قوله تعالى:{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم . ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين .وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين. وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين} ( ) والسبعة الآخرون هم آدم وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.اهـ . ولايعني ذكر هؤلاء الأنبياء في القرآن أنهم هم الذين نُبئوا أو أُرسل إليهم فقط من دون الناس . لا. ليس هذا المراد ، بل إن هناك كثير من الأنبياء والرسل لانعلمهم ولم يرد ذكرهم في القرآن قال تعالى:{ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك} ( )وتلك لحمكمةٍ الله أعلم بها . وينصر ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إني خاتم ألف نبي وأكثر مابعث نبيٌ يتبع إلا وقد حذر أمته الدجال...الحديث ) ( ) وفي حديث أبي ذر قال: قلت يارسول الله كم المرسلون ؟ قال: ثلاث مائة وبضعة عشر جماً غفيراً ،وقال مرة خمسة عشر ..الحديث ( ) .
قال القاسمي : ثم اعلم أن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص ، وإنما هي عبرة للناس، كما قال تعالى في سورة هود ، بعدما ذكر موجزاً من سيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم : { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ...} إلخ ... وقال : وفي تلك القصص فوائد عظيمة، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية... إلخ ( ).
الفوائد والعبر من قصص الأنبياء
القسم الأول: دعوة الأنبياء والرسل وحالهم مع أقوامهم .
1- التوحيد هو أول شيء بدء به الرسل .
أول أمر بدء به الرسل في دعوتهم لأقوامهم، أنهم أمروهم بتوحيد ربهم الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم، وبينوا لهم أن الله هو المستحق وحده للعبادة، فمن أخلص له في توحيده كان من الفائزين بجنته، ومن أشرك به خسر الدنيا والآخرة ، قال تعالى: { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } ( ) . فهذا عيسى عليه السلام يحكي الله جل في علاه عنه دعوته لقومه فقال: { … وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } ( ) . وهذا إبراهيم يحذر أباه وقومه من بعده :{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين } ( ) . وهذا نوح عليه السلام يقول: {… ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } ( ). وهود ( )، وصالح ( )، وشعيب-عليهم السلام- ( ) ، كلهم قال لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . ومن جاء بعدهم ومن كان قبلهم من الأنبياء والرسل، بدءوا بدعوة التوحيد قبل كل شيء، لأنه إذا صح التوحيد ونُقي من أدران الشرك، وسلمت العقيدة من الضلالات الباطلة، كان ذلك إيذاناً بغفران الذنوب وقبول العمل .
والدعاة إلى الله لهم في رسل الله وأنبيائه سلف -وهم خير سلف-، فحريٌ بهم أن يعتنوا بهذا الأصل العظيم، وأن يصححوا عقائد الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن لا يسكتوا عن المخالفات التي تقدح في التوحيد بدعوى تأليفهم وتجميع أكبر قدر منهم، فإنهم وإن حصل لهم ما يريدون من التجمع الكبير إلا أنهم غُثاء كغثاء السيل، ليس معهم ما يحصنهم ضد الشبهات المضللة والآراء الفاسدة . وهل أتُي الإسلام إلا من قبل أهل الكلام وأهل البدع والخرافات ؟ .
2- تقرير الأنبياء: أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية .
لم تنكر أمة من الأمم توحيد الربوبية، فجميعهم يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت… ولكنهم مع ذلك كانوا يُشركون معه في العبادة أو يدعون الأصنام والأنداد من دونه . والرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقررن أمراً واضحاً جلياً وهو: أن من كان خالقاً رازقاً محيياً مميتا، كان أحق بالعبادة وأن يُخلص له فيها وأن لا يشرك به أو معه غيره . ولكن لتسلط الشيطان عليهم، ومتابعتهم للآباء والكبراء، استكبروا وأبوا أن ينقادوا للحق .
قال الله تعالى حاكياً مناظرة موسى-عليه السلام- لفرعون : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(24)قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } ( ). فانظر إلى كلام موسى –عليه السلام- حيث يقرر لفرعون وقومه أن المستحق للعبادة هو رب السموات والأرض، وربهم ورب آبائهم، ورب المشرق والمغرب.
وأمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89) }( ). وهذا تقريرٌ آخر، حيث أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين، لمن الأرض ومن فيها، ومن رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ومن بيده ملك كل شيء . والجواب معروفٌ لديهم، ولذا قال تعالى: { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } . ولذا كان ختم كل آية فيه توبيخ وتقريعٌ للمشركين، كيف أنكم تعلمون ذلك وتقرون به ثم تشركون به ولا تفردون له العبادة . قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له…اهـ ( ).
3- فائدة كون الأنبياء بشر .
كذبت الأمم السابقة وكفار مكة من هذه الأمة بما جاء به الرسل، واستندوا في تكذيبهم على أن الذين أُرسل إليهم بشر . فقال قوم نوح لنوح: { … مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ(24) } ( ). وقال قوم موسى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47) }( ) .
ومثل هذا في القرآن كثير، حيث رد الله عليهم وبين الحكمة من جعل الرسل من البشر، وأن هذا من لطفه بالخلق ورحمته بهم، فقال-تعالى-: { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا(95)}( ) . وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(164) } ( ) .
قال ابن كثير عند قوله تعالى -{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ… الآية }- : ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه ( ). وفي قوله تعالى: { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9) }( ) . بيان من الله أن الرسول لو كان ملكاً لجُعل على هيئة رجل، لكي يألفوه ويأخذوا عنه الدين والعلم، لأن الناس لا يألفون إلا من كان من جنسهم، ولو جاءهم الملك على هيئة رجل لكذبوه كما كذبوا الرسل من قبل ( ).
ويتحصل من هذا أن الله لو بعث إليهم ملكاً رسولاً إليهم لما استطاعوا أن يأخذوا عنه العلم والإيمان لاختلاف الجنس والطبع ... ولو أنزل الله إليهم ملكاً رسولاً لجعله على هيئة رجل، ولو كان كذلك لكذبوه كما كذبوا الرسل من قبل، فعاد الأمر إلى التكذيب، وعندئذ تكون دعواهم بإرسال ملكاًَ رسولاَ باطلة أرادوا بها المعاندة والمشاقة .
4- تكذيب الرسل .
من الأمور التي ينبغي الوقوف عندها عندما نتكلم عن قصص الأنبياء، أن الأمم التي أرسل إليها الرسل، كذبت برسلها وألصقت بهم التهم، مع أن الرسل لم يأتوا بأمور مستنكرة، بل جاءوهم بعبادة الله وحده ونبذ الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، وجاءوهم بصلة الأرحام، وإطعام الطعام، والإحسان إلى الناس… وغير ذلك من صنائع المعروف؛ وهي أمور يستحسنها العقل بداهة، وترغب إليها النفوس، ولكن هو العناد و الاستكبار والتكذيب . ولما كان مصير صفوة خلق الله التكذيب والاتهام والسخرية، لم يخذل الله رسله، فكل أمة كذبت رسولها هلكت ونالها العقاب الأليم ولعذاب الآخرة أشق .
قال الله تعالى مسلياً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، عندما كذبه قومه : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } ( ) . فقوم نوح قالوا له : { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ(24)إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ(25)قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(26) } ( ) . فنصره الله لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ }( ) . ونصر الله نبيه هود لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } ( ) . ونصر الله نبيه شعيب لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ( ) . وكذا صالح ولوط وغيرهم من الأنبياء-عليهم السلام- .
فائدة :
المكذب برسول واحد مكذب لكل الرسل لقوله تعالى: { كذب أصحاب الحجر المرسلين } ( ) . وأهل الحجر لم يُرسل إليهم إلا نبي واحد وهو صالح عليه السلام ، ولكن لما كذبوه وردوا دعوته والتي هي دعوة الأنبياء والرسل من قبله ومن بعده كان تكذيبهم له تكذيب لكل الرسل . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والأنبياء كلهم دينهم واحد ، وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم،... ولهذا كان من صدق محمداً فقد صدق كل نبي؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي، ومن كذبه فقد كذب كل نبي، ومن عصاه فقد عصى كل نبي ) ( ) . وقال : (من أطاع رسولاً واحداً فقد أطاع جميع الرسل، ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع، ومن عصى واحداً منهم فقد عصى الجميع، ومن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر ويقول: إنه رسول صادق، ويأمر بطاعته. فمن كذب رسولاً فقد كذب الذي صدقه، ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته ) ( ) . وقال ابن سعدي : ( ومن كذب رسولاً فقد كذب سائر الرسل، لاتفاق دعوتهم . وليس تكذيب بعضهم لشخصه، بل لما جاء به من الحق الذي اشترك جميع الرسل بالإتيان به ) ( ) .
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . ثم أما بعد :
فإن الأنبياء أكمل الناس عقولاً ، وأحسنهم أخلاقاً ، وأشدهم صبراً عند الأبيتلاء ، اختارهم الله ليكونوا سفرائه إلى أقوامهم ، ليبشروهم برحمة الله وفضله إن هم أطاعوه ، وينذرونهم غضب والله ومقته إن هم عصوه وخالفوا أمره .
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز طائفة من الرسل والأنبياء ، وعددهم خمسة وعشرون نبياً ، منهم ثمانية عشر نبياً في أربع آيات متتاليات من سورة الأنعام وهي قوله تعالى:{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم . ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين .وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين. وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين} ( ) والسبعة الآخرون هم آدم وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.اهـ . ولايعني ذكر هؤلاء الأنبياء في القرآن أنهم هم الذين نُبئوا أو أُرسل إليهم فقط من دون الناس . لا. ليس هذا المراد ، بل إن هناك كثير من الأنبياء والرسل لانعلمهم ولم يرد ذكرهم في القرآن قال تعالى:{ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك} ( )وتلك لحمكمةٍ الله أعلم بها . وينصر ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إني خاتم ألف نبي وأكثر مابعث نبيٌ يتبع إلا وقد حذر أمته الدجال...الحديث ) ( ) وفي حديث أبي ذر قال: قلت يارسول الله كم المرسلون ؟ قال: ثلاث مائة وبضعة عشر جماً غفيراً ،وقال مرة خمسة عشر ..الحديث ( ) .
قال القاسمي : ثم اعلم أن قصص القرآن الكريم لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص ، وإنما هي عبرة للناس، كما قال تعالى في سورة هود ، بعدما ذكر موجزاً من سيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم : { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ...} إلخ ... وقال : وفي تلك القصص فوائد عظيمة، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية... إلخ ( ).
الفوائد والعبر من قصص الأنبياء
القسم الأول: دعوة الأنبياء والرسل وحالهم مع أقوامهم .
1- التوحيد هو أول شيء بدء به الرسل .
أول أمر بدء به الرسل في دعوتهم لأقوامهم، أنهم أمروهم بتوحيد ربهم الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم، وبينوا لهم أن الله هو المستحق وحده للعبادة، فمن أخلص له في توحيده كان من الفائزين بجنته، ومن أشرك به خسر الدنيا والآخرة ، قال تعالى: { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } ( ) . فهذا عيسى عليه السلام يحكي الله جل في علاه عنه دعوته لقومه فقال: { … وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } ( ) . وهذا إبراهيم يحذر أباه وقومه من بعده :{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين } ( ) . وهذا نوح عليه السلام يقول: {… ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } ( ). وهود ( )، وصالح ( )، وشعيب-عليهم السلام- ( ) ، كلهم قال لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . ومن جاء بعدهم ومن كان قبلهم من الأنبياء والرسل، بدءوا بدعوة التوحيد قبل كل شيء، لأنه إذا صح التوحيد ونُقي من أدران الشرك، وسلمت العقيدة من الضلالات الباطلة، كان ذلك إيذاناً بغفران الذنوب وقبول العمل .
والدعاة إلى الله لهم في رسل الله وأنبيائه سلف -وهم خير سلف-، فحريٌ بهم أن يعتنوا بهذا الأصل العظيم، وأن يصححوا عقائد الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن لا يسكتوا عن المخالفات التي تقدح في التوحيد بدعوى تأليفهم وتجميع أكبر قدر منهم، فإنهم وإن حصل لهم ما يريدون من التجمع الكبير إلا أنهم غُثاء كغثاء السيل، ليس معهم ما يحصنهم ضد الشبهات المضللة والآراء الفاسدة . وهل أتُي الإسلام إلا من قبل أهل الكلام وأهل البدع والخرافات ؟ .
2- تقرير الأنبياء: أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية .
لم تنكر أمة من الأمم توحيد الربوبية، فجميعهم يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت… ولكنهم مع ذلك كانوا يُشركون معه في العبادة أو يدعون الأصنام والأنداد من دونه . والرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يقررن أمراً واضحاً جلياً وهو: أن من كان خالقاً رازقاً محيياً مميتا، كان أحق بالعبادة وأن يُخلص له فيها وأن لا يشرك به أو معه غيره . ولكن لتسلط الشيطان عليهم، ومتابعتهم للآباء والكبراء، استكبروا وأبوا أن ينقادوا للحق .
قال الله تعالى حاكياً مناظرة موسى-عليه السلام- لفرعون : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(24)قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } ( ). فانظر إلى كلام موسى –عليه السلام- حيث يقرر لفرعون وقومه أن المستحق للعبادة هو رب السموات والأرض، وربهم ورب آبائهم، ورب المشرق والمغرب.
وأمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89) }( ). وهذا تقريرٌ آخر، حيث أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين، لمن الأرض ومن فيها، ومن رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ومن بيده ملك كل شيء . والجواب معروفٌ لديهم، ولذا قال تعالى: { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } . ولذا كان ختم كل آية فيه توبيخ وتقريعٌ للمشركين، كيف أنكم تعلمون ذلك وتقرون به ثم تشركون به ولا تفردون له العبادة . قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له…اهـ ( ).
3- فائدة كون الأنبياء بشر .
كذبت الأمم السابقة وكفار مكة من هذه الأمة بما جاء به الرسل، واستندوا في تكذيبهم على أن الذين أُرسل إليهم بشر . فقال قوم نوح لنوح: { … مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ(24) } ( ). وقال قوم موسى : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47) }( ) .
ومثل هذا في القرآن كثير، حيث رد الله عليهم وبين الحكمة من جعل الرسل من البشر، وأن هذا من لطفه بالخلق ورحمته بهم، فقال-تعالى-: { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا(95)}( ) . وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(164) } ( ) .
قال ابن كثير عند قوله تعالى -{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ… الآية }- : ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه ( ). وفي قوله تعالى: { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9) }( ) . بيان من الله أن الرسول لو كان ملكاً لجُعل على هيئة رجل، لكي يألفوه ويأخذوا عنه الدين والعلم، لأن الناس لا يألفون إلا من كان من جنسهم، ولو جاءهم الملك على هيئة رجل لكذبوه كما كذبوا الرسل من قبل ( ).
ويتحصل من هذا أن الله لو بعث إليهم ملكاً رسولاً إليهم لما استطاعوا أن يأخذوا عنه العلم والإيمان لاختلاف الجنس والطبع ... ولو أنزل الله إليهم ملكاً رسولاً لجعله على هيئة رجل، ولو كان كذلك لكذبوه كما كذبوا الرسل من قبل، فعاد الأمر إلى التكذيب، وعندئذ تكون دعواهم بإرسال ملكاًَ رسولاَ باطلة أرادوا بها المعاندة والمشاقة .
4- تكذيب الرسل .
من الأمور التي ينبغي الوقوف عندها عندما نتكلم عن قصص الأنبياء، أن الأمم التي أرسل إليها الرسل، كذبت برسلها وألصقت بهم التهم، مع أن الرسل لم يأتوا بأمور مستنكرة، بل جاءوهم بعبادة الله وحده ونبذ الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع، وجاءوهم بصلة الأرحام، وإطعام الطعام، والإحسان إلى الناس… وغير ذلك من صنائع المعروف؛ وهي أمور يستحسنها العقل بداهة، وترغب إليها النفوس، ولكن هو العناد و الاستكبار والتكذيب . ولما كان مصير صفوة خلق الله التكذيب والاتهام والسخرية، لم يخذل الله رسله، فكل أمة كذبت رسولها هلكت ونالها العقاب الأليم ولعذاب الآخرة أشق .
قال الله تعالى مسلياً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، عندما كذبه قومه : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } ( ) . فقوم نوح قالوا له : { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابَائِنَا الْأَوَّلِينَ(24)إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ(25)قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(26) } ( ) . فنصره الله لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ }( ) . ونصر الله نبيه هود لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } ( ) . ونصر الله نبيه شعيب لما كذبوه: { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ( ) . وكذا صالح ولوط وغيرهم من الأنبياء-عليهم السلام- .
فائدة :
المكذب برسول واحد مكذب لكل الرسل لقوله تعالى: { كذب أصحاب الحجر المرسلين } ( ) . وأهل الحجر لم يُرسل إليهم إلا نبي واحد وهو صالح عليه السلام ، ولكن لما كذبوه وردوا دعوته والتي هي دعوة الأنبياء والرسل من قبله ومن بعده كان تكذيبهم له تكذيب لكل الرسل . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والأنبياء كلهم دينهم واحد ، وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم،... ولهذا كان من صدق محمداً فقد صدق كل نبي؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي، ومن كذبه فقد كذب كل نبي، ومن عصاه فقد عصى كل نبي ) ( ) . وقال : (من أطاع رسولاً واحداً فقد أطاع جميع الرسل، ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع، ومن عصى واحداً منهم فقد عصى الجميع، ومن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر ويقول: إنه رسول صادق، ويأمر بطاعته. فمن كذب رسولاً فقد كذب الذي صدقه، ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته ) ( ) . وقال ابن سعدي : ( ومن كذب رسولاً فقد كذب سائر الرسل، لاتفاق دعوتهم . وليس تكذيب بعضهم لشخصه، بل لما جاء به من الحق الذي اشترك جميع الرسل بالإتيان به ) ( ) .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى